يقول سيد قطب:
إن معاوية وزميله عمرو لم يغلبا عليا
لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب، ولكن
لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح، وهو مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع، وحين
يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم. لا
يملك على أن يتدنى إلى هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحان ويفشل، وإنه لفشل أشرف من
كل نجاح، على أن غلبة معاوية على علي كانت لأسباب أكبر من الرجلين، كانت غلبة جيل
على جيل، وعصر على عصر، واتجاه على اتجاه، كان مد الروح الإسلامي العالي قد أخذ
ينحسر، وارتد الكثيرون من العرب إلى المنحدر الذي رفعهم منه الإسلام، بينما بقي
علي بن أبي طالب في القمة لا يتبع هذا الانحسار، ولا يرضى بأن يجرفه التيار، من
هنا كانت هزيمته، وهي هزيمة أشرف من كل انتصار.
لقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت روح الإسلام التي لم تتمكن بعد
من النفوس، ولو قد قدر لعلي أن ينتصر، لكان انتصاره فوزا لروح الإسلام الحقيقية،
الروح الخلقية العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في النضال، ولكن
انهزام هذه الروح ولما يمض عليها نصف قرن كامل، وقد قضى عليها فلم تقم لها قائمة
بعد - إلا سنوات على يد عمر بن عبد العزيز - ثم انطفأ ذلك السراج، وبقيت الشكليات
الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية. قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية
ومن جاء بعده، ولكن روح الإسلام قد تقلصت، وهزمت، بل انطفأت، فإن يهش إنسان لهزيمة
الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضوض، فتلك
غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها.
على أننا لسنا في حاجة يوما من الأيام أن ندعو الناس إلى خطة معاوية، فهي
جزء من طبائع الناس عامة، إنما نحن في حاجة لأن ندعوهم إلى خطة علي بن أبي طالب،
فهي التي تحتاج إلى ارتفاع نفسي يجهد الكثيرون أن ينالوه، وإذا احتاج جيل لأن يرعى
إلى خطة معاوية، فلن يكون هو الجيل الحاضر على وجه العموم، فروح " مكيافيلي
" التي سيطرت على معاوية قبل مكيافيلي بقرون هي التي تسيطر على أهل هذا
الجيل، وهم أخبر بها من أن يدعوهم أحد إليها، لأنها روح " النفعية "
التي تظلل الأفراد والجماعات والأمم والمحكومات.
وبعد، فلست " شيعيا " لأقرر هذا الذي أقول، إنما أنا أنظر إلى
المسألة من جانبها الروحي الخلقي، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيا لينتصر للخلق
الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية، ولينتصر لعلي بن أبي طالب على
معاوية وعمرو، إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة.