التعقيم للعتبات؟!
مطلب صعب ويحتاج الى تأمل وأفق واسع في معرفة المفاهيم والتدبر في معناها وفحواها من دون زيادة وتشدق ومحاولة تأثر بالألفاظ , بل الأخذ بالمعاني التامة دون نقص , لا ايمان دون تدبر ومعرفة يعد نقصٌ شنيع يربأ عنه العارفون بالله , ومن يُقدِّس جهالته المركبة بعيد عن الحق والحقيقة ..
أَمُـرُّ عَلَـى الدِّيَـارِ دِيَـارِ لَيْلَــى أُقَبِّــلُ ذَا الجـِدَارَا وَذَا الجــِدَارَا
وما حبّ الدّيار شَغَفنَ قلبِي ولكن حُبُّ من سَكَنَ الدّيارا..
فالأمكنة لا قيمة لها بل القيمة لصاحبها,لساكنها , هو من يجعل لها معنى معين وقدسية , وشرف المكان بالمكين , الأرض قبل أن تكون مسجداً تختلف قبل وقفها وتتحول الى مقدسة بمجرد البناء وتجري عليها أحكام المسجديّة , وقميص يوسف (ع) لا قيمة له إلا لأنه ليوسف (ع) ويختلف عن أنواع المرتديات الأخرى التي كانت عند يوسف (ع) لنتأمل قليلاً هو ليس كأي قميص آخر ، ورد ذكره ست مرات في ست آيات , أستخدمه إخوته (ع) كدليل على أكل الذئب يوسف واستخدمه الشاهد كدليل براءة يوسف , والقميص الذي أرسله يوسف لأبيه (ع) كسبب في ارتداد البصر! وأعتقد القميص الأخير مختلف عن الذين قبله , روى مفضل عن أبي عبد الله (ع) قال: أتدري ما كان قميص يوسف؟ قلت له: لا.
قال: (إن إبراهيم (ع) لما أوقدت له النار، أتاه جبرئيل (ع) بثوب من الجنة فألبسه إياه، فلم يضره معه حر ولا برد، فلما حضر إبراهيم الموت، جعله في تميمة وعلقها على إسحاق (ع) ، وعلقه إسحاق على يعقوب (ع)، فلما ولد يوسف، علقه عليه، فكان في عضده حتى كان من أمره ما كان ...) والنتيجة هذا القميص له قيمة مادية ومعنوية بخلاف غيرها وان كان كل آثار الأنبياء وأهل البيت (ع) الاستشفاء والتبرك بها ودلالة على التقدير وإظهار المودة والاحترام.
كل حركات الأنبياء لا تنفك عن يد الغيب في مجال تغيَّرَ الإنسان له دور ويد الغيب تنصره عندما يعجز , قال تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) في البداية عمل الإنسان في عالم الشهود عالم المحسوسات , يقال له البعد المادي حينئذ يأتي دور الإسناد (يَنْصُرْكُمْ) العنصر الغيبي الإلهي , البعد الغيبي ما وراء الحس يعني اليد الإلهية، الإعجاز، الملائكة، النصر الإلهي الغيبي, وهذه نظرية منسجمة وجارية في كل الأديان, النبي نوح (ع) والطوفان والنبي موسى (ع) وقومه عندما دخل في مواجهة مع فرعون ولما عجز العنصر البشري (البعد المادي ) تقدم الدور الإلهي (البعد الغيبي) قال تعالى : (أَلْقِ عَصاكَ) , (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) هذا اسناد , لكن أصل الحركة للنبي موسى (ع) وجماعته ثم جاء النصر الإلهي , بمعنى تقديم العامل البشري إذا عجز يأتي دور العنصر الغيبي ويأتي دور الملائكة، ويأتي دور المعجزة كأدوات احتياط وكدور ثانٍ وليس أوّل، العامل البشري هو الدور الأوّل.
ونقل في الكافي رواية تقول : أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن ادعُ قومك للقتال وأنا ناصركم، جاء هؤلاء الناس ولكن لم يضربوا بسيف ولم يطعنوا برمح وبمجرد أن رأوا قوات العدو انهزموا وقالوا لا طاقة لنا للقتال فلم ينصرهم الله، أصبحوا يعتبون على نبيهم ويقولون وعدتنا بالنصر فأين هو؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيهم قل لهم إما القتال وإمّا النار، أيّ إما أن يقاتلوا العدو مع قلة العدد وحينئذٍ أنا اُنزل عليهم النصر وإما أدخلهم النار فأخبرهم النبي بذلك وقال يا بني إسرائيل هذا الوحي من الله تعالى يقول لو لم تقاتلوا ينزل عليكم العذاب, قالوا نقاتل وجاءوا مستعدين للقتال ولم ينهزموا وحينئذٍ أنزل الله عليهم النصر قبل أن يطعنوا برمح أو يضربوا بسيف .. وكما يقال (يا عبدي منك الحركة ومني البركة) عمل ما مطلوب منك أعمل وأدعو الله الرزق أذهب للزيارة واطلب من الله تعالى الشفاء من الوجيه عند الله ومن ثم أذهب الى الطبيب وخذ العلاج ولا يعني ان تجلس ولا تعمل وتنتظر يد الغيب !
والإمام الحسين (ع) كان يعلم يد الغيب ترعى مشروعه الإصلاحي لكن كان يعمل على القانون العام في تغيَّرَ دور العنصر البشري ,خطب وعبئ الناس لم يبشرهم بالانتصار ولم يحدثهم عن نزول الملائكة , وكان تخطيط كامل للمعركة رغم العلم (ع) وكرر ذلك أنه مقتول وكل أنصاره معه ! ووقوف الفرس , وبدل الفرس أكثر من مرة ولم يتحرك سأل عن إسم الأرض! وسؤال الإمام (ع) لأصحابه من أجل التأكيد على معنى يريد أن يرتبه على جوابهم ، وهذا من وسائل إلفات السامع وجلب نظره , حتى يرتب على الجواب حكم , خصوصا لمن لا يعرفون تفاصيل تلك المناطق العراقية وأسماءها ، فلا بد من تعريفهم من خلال إثارة السؤال لكي يجيب عليه من يعرفها من حيث اسمها ، ثم يكمل الإمام ذلك بأن هذه الأرض هي أرض الشهادة وأنهم على موعد معها ، وهذا ليس غريباً فإن مثاله في أكثر من موقع قد حصل ان ناقة النبي(ص)، كانت (مأمورة) وفي رواية ثانية حينما حاصروا المشرعة إنه تراجع وراء الخيام عدة خطوات ثم حفر بئراً فنبعت عين ماء فشرب منها، كان هذا في السابع من محرم الحرام، ونفس الوقت حفر وراء الخيام خندقاً ملأه بالحطب وأحرقه، هذه خطة عسكرية حتى لا يحدث على الخيام هجوم من الخلف وبهذا قال الأعداء تعجلتَ بالنار يا حسين! إذن هذه خطة عسكرية يخوضها الإمام الحسين (ع)، مع هذا التقدم في العنصر البشري والعنصر الغيبي موجود أيضاً.
نحن الشيعة بشكل عام ندرك بفطرتنا وبوجداننا هذه الحقيقة المعبرة عن هذا الجانب الغيبي والاِعتراف بالحقيقة الاِلهية ولما لأهل البيت (ع) من كرامة وجاهً استشفعنا وتوسلنا بهم إلى الله، وقدمنا بين يديهم حاجاتنا لأنهم وجهاء عنده تعالى وهم الشفعاء , من نعمه تعالى على البشر أنه أمرهم بالتوسل لله والاستشفاع بالنبي وأهل بيته (ع) وهذا هو البعد الغيبي ولا ينكره إلا ضعيف الإيمان، والغيب حقيقة أقوى وأعظم من البعد المادي وينتصر عليه , والبعد الغيبي لا يحده مكان معين ولا زمان , وان للدعاء ومقوماته تختلف من شخص الى آخر ومن مكان الى الآخر , هذا الحديث الطويل مقدمة لامر حساس ومهم يحتاج الى مقدمات في الموضوع وإلا كل الأشياء تصبح مبهمة وغير واضحة وقد لا تقبل من البعض ..
وما يتناقله البعض عن تعقيم الشباك ومن عدمه، وهو ليس تعقيم بل نظافة كما في أي يوم ومن ثم يعطر , ولا يعني أن هذا الأمر له علاقة بالإمام (ع) أو صاحب المرقد لا يقلل من شأنه , التي لم ولن يصل لها أحد , والإمام (ع) شيء والمرقد شيء آخر وكل الأشياء المادية في المرقد اكتسب الشرافة من وجودها في رحاب الإمام (ع) أو اي وليٌ طاهر , وحتى غير المادية مثال خدام المراقد وخدام المواكب كلمة خادم لها معنى آخر لفظ لا يدل على معناه الذى وضعَ له , هو مجاز أو المنقول خادم الحسين (ع) هو منزلة ورفيعة بل الشرف الأعظم , كل الأشياء تكتسب الشرفية من المكان وليس بحد ذاتها هي قبل وجودها كجزء فيه لا قيمة معنوية لها غير ثمنها المادي , ولو خرجت من المكان تذهب عنها تلك القيمة إلا في بعض الأشياء يمكن التبرك به من باب انها شيء من ذلك المكان المقدس لكن لا قدسية لها , وهذه الأشياء من ذهب ومرمر وفضة وطابوق وغيرها من وضعها هم من يقوم بتنظيف أو تعقيم , ولا يعني أن وجودها في المكان المقدس لا تلوثها الجراثيم أو المكروبات , وهي يمكن ان تتنجس أو تتسخ من الخارج، وخدام المراقد عملهم في هذا تنظيف وتطهير المراقد المطهرة ان حصل ذلك الطارئ , والفايروسات لا تختلف عن الأوساخ والنجاسات ممكن ان توجد في أي جزء من المرقد , وتزال كما تزال الأتربة وان كانت لا ترى لكن من باب انه كـأمر مادي موجودة وتزال بهذه الطرق , ولا مساس لقدسية صاحب المرقد.
والذي يقوم به إدارة العتبة العمل البشري الدور الأول كما وضحنا سابقاً , بمعنى تكليفهم كعمال وخدم في هذا المرقد , بمعنى تقديم العامل البشري , وهذا لا يعني عدم الإيمان بدور العنصر الغيبي وكرامة وجاه صاحب المرقد , كما إذا مريض يزور الإمام (ع) ثم يذهب الى الطبيب وبعد ذلك يتم الشفاء ,وهناك ما يعجز عنه الطب وهذا ليس حالة نادرة بل أغلب أتباع أهل البيت (ع) لهم علاقة ولهم معهم (ع) مواقف عجز عن حلها العامل البشري ويأتي دور المعجزة الدور ثانٍ ...
وقد أكون انا مراجع لهم (ع) أكثر من العامل البشري وان كان هو الدور الأول وأمرنا الله تعالى العمل بالأسباب، ومنها الذهاب للطبيب والعلاج والدعاء والله تعالى قادر بلا شك كرامة لهذا الإمام (ع) أن تشفى بدون كل ذلك , ليس كل الناس يؤمنون بذلك تماما, وتفهم الأشياء حسب الفطرة السليمة والتي هي من أهم المقومات ..
نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بعروته الوثقى حبل الله المتين ، وأن يرزقنا محبتهم في الدنيا وشفاعتهم في الاخرة ..
عادل الزركاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق