الثلاثاء، 15 يوليو 2025

 

الادّعاءات لا تكفي وحدها

الشيخ عادل الزركاني

الادّعاءات وحدها لا تعني شيئًا، وليست ذات قيمة حقيقية، فكم من أناسٍ ادّعوا النبوة أو الولاية، أو زعموا أنهم مرسلون من الله تعالى، أو مراجع دين وأئمة هدى! , كل شخص يمكنه أن يدّعي ما يشاء، لكن السؤال الجوهري الذي ينبغي أن يُطرح هو: على ماذا يبني هذا المدّعي ادّعاءه؟ , وهل يمكننا كشف زيفه وكذبه؟ , أهل العقول والبصائر لا يحتاجون إلا دقائق معدودة لتمييز الحق من الباطل، وأما من التبس عليه الأمر، فعليه أن يتأمل ويتدبّر حتى تتجلّى له الحقيقة. أما الدخول في الشبهات بغير علم فهلاك محقّق، والخروج منها ليس بالأمر الهيّن، تمامًا كمن لا يُجيد السباحة فيُقْدم على القفز في عرض البحر، واهمًا أنه سيتعلم السباحة هناك! , بل إن بعض المدّعين يُصدّقون أكاذيبهم كما حصل مع ذاك المجنون الذي أوهم الأطفال بوجود وحشٍ قادم، ففرّوا هاربين، وكان هو أول من هرب، خائفًا من الكذبة التي اختلقها! هكذا تجدهم يُغذّون وهمهم ويعيشون فيه، رافضين أي صوتٍ يعارضهم، مُدّعين أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة , وبعضهم منهم لم يدرسوا يومًا في الحوزة، تعلموا فقط بعض الحركات والجدليات السطحية، ثم نصّبوا أنفسهم دعاة أو مراجع، وأصبح كلٌّ منهم يتباهى على الآخر بـ"أنا وأنا"، بينما هم يمارسون الانحدار الأخلاقي بأبشع صوره: سبّ، وقذف، وشتائم نابية، وتجاوز على الذات الإلهية والأنبياء والأولياء، بحجة أن "الله غير الله الذي تعرفونه"، و"النبي غير النبي الذي تعتقدون به"! وهذه مغالطة الجهّال , الله سبحانه هو الله، عرفه الجاهل أو أنكره، والنبي (ص) هو هو، مهما أنكر المغالون أو شوّهوا سيرته. هذا الخلط الخطير بين الجهل والعلم، حين يتحوّل الجهل إلى ما يُسمّى علمًا، هو أخطر أنواع الانحراف، لأنه يجمع بين الضلال الفكري والانهيار الأخلاقي بشكلٍ متحجّرٍ عنيد , وهؤلاء يقتلون أنفسهم من أجل وهم داخلي صنعوه، وربما يصرّحون بأفكار لا يؤمنون بها أصلاً، لكنهم مضطرون للبقاء في كذبتهم حفاظًا على ما يعتقدونه "مكانة" أو "نفوذًا"، فيستمرّون في غيّهم وعنادهم , يبقى السؤال الجوهري: كيف نميّز المدّعي في عصرٍ اختلطت فيه المفاهيم، وتزعزعت فيه القيم والأخلاق؟ , أعتقد أن الأمر ليس بالصعب إذا رجعنا إلى ذواتنا، وتحكّمنا في عواطفنا، وتحرّرنا من أهوائنا، ومن أسر النفس الأمّارة بالسوء، وما تراكم فيها من رواسب وأوهام , علينا أن نرتفع عن سطح الأحداث، وننظر إليها بعين الباحث النزيه، لا المتعصّب المتشنّج , ثم نسأل أنفسنا: هل هذا المدّعي، أو ذاك الكاذب، يسير على نهج آل محمد (عليهم السلام)؟ , هل هو ملتزم بأخلاقهم، بسلوكهم، بمنطقهم، بطريقتهم في الحوار والعمل؟ , النهج هو المعيار، لا الشعارات، ولا الألقاب، ولا الادّعاءات الجوفاء , ثم نأتي إلى ركنين مهمين في شخصية العالم الرباني: العلم والحِلم , القضايا العلمية والنظرية الدقيقة لا تُعرض على عامة الناس ليقيّموها بالأذواق والانطباعات، بل تُناقَش وتُختبَر في ميدان العلم على أيدي أهل الاختصاص. ولذلك، فإن تقييم الادّعاءات العلمية أو الدينية من اختصاص أهل العلم والمعرفة، لا العوام، ولا متابعي وسائل التواصل , أما من يُطلق على نفسه ألقابًا ضخمة من قبيل: "فقيه الزمان" أو "عالم العصر"، فليعلم أن كلمة عالم ليست مجرد وصف أو رتبة اجتماعية، بل مفهومٌ مركّبٌ عميق، ذو دلالات أخلاقية، روحية، واصطلاحية , ولا يناله من لا يستحقه، ولا يصله من لم يُطهّر نفسه، ويُنمِّ علمه، ويصبر على طريق التهذيب والبناء , العقل والحقّ يشهدان أن أغلب هذه الدعوات الطارئة التي نسمع عنها اليوم، هزيلة ومخجلة، لا تمتّ للعلم ولا لأهله بصلة. أصحابها كذّابون دجّالون، هدفهم استغلال البسطاء والسذّج من الناس، وتمزيق الصفوف، وإبعاد الناس عن سبيل الهدى، وتشويه المقدّسات.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الدين لو الوطن أولى ؟ ليس بين الدين والوطن صراع، بل الصراع الحقيقي في العقول الساذجة , فالدين أكبر من أن يُقاس بالمادة، لأنه عقيدة تتجاوز ...