الادّعاءات لا تكفي وحدها – الجزء الثاني
✍️ الشيخ عادل الزركاني
كيف نميّز هؤلاء المدّعين؟ , وما هي العلامات الفارقة بينهم وبين أهل الحق؟ , من أجل الإجابة، دعونا نستعرض هذه القصة التراثية التي تُجسّد حال المدّعين بأسلوب بسيط وواقعي: يُروى أن رجلًا غريبًا، أبيض اللحية، فصيح اللسان، جاء إلى مدينة وسكن أحد أحيائها الشعبية. كان يخرج كل صباح، يجلس أمام بيته حاملاً قلمًا وكتابًا، حتى المساء , وفي أحد الأيام، اقترب منه أحد شبان الحي مرحبًا وسأله عن سبب مجيئه. فقال له الرجل بثقة:"أنا داعية وعلامة، لا أعمل شيئًا سوى نشر العلم، وقد منحني الله ميزة لا توجد عند غيري: أستطيع أن أُجيب عن أي سؤال في أي علم من علوم الأرض، فورًا، وبلا تردد، وبشكل يقيني , اندهش الشاب مما سمع، وسرعان ما انتشر الخبر في الحي، فتوافد الناس على الرجل، حاملين الهدايا، وبدأوا يطرحون عليه أسئلتهم، وهو يجيب بسرعة مذهلة، بأسلوب يبدو مقنعًا وسلسًا , كبرت الهالة حوله، وبدأت الأحياء المجاورة تتوافد عليه، وظنّوا أنهم أمام عالمٍ رباني قلّ نظيره! , لكن كان هناك شاب متخصّص في الفقه والأدب، راقب الأمر، وأدرك من طريقة الإجابات وحديث الناس أن هذا الرجل محتالٌ بارع، يستخفّ بعقول البسطاء ويستغلّ سذاجتهم , لم يثر الشاب الموضوع مباشرة، بل قال للناس: عند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان. تعالوا نؤلف كلمة لا وجود لها، نأخذ أول حرف من كل اسم من أسمائكم، فكانت الكلمة: خنفشار .. ثم ذهبوا جميعًا إلى الرجل وسألوه عن معنى ("الخنفشار)؟", فأجاب بثقة: هو نبات ينبت في أطراف الصحراء، وقد ذكره فلان، وقال فيه كذا وكذا..." واسترسل يروي من الخيال ما يُدهش السامعين! , هنا سقط القناع، وسخر الناس منه، وانفضح أمره، فرحل عن المدينة إلى غير رجعة , الشاهد من القصة واضح: ليس كل متحدث بعالم، وليس كل مظهر يدل على الجوهر. السؤال الحقيقي: هل تعلم ما يقول؟ وهل أنت من أهل التخصّص حتى تُصدّقه؟ , هل هذا الشخص درس الفقه؟ علم الأصول؟ علم الرجال؟ الدراية؟ الجرح والتعديل؟ المنطق؟ الفلسفة؟ , إذا لم يكن كذلك، فكيف أصبح بين ليلة وضحاها "مرجعًا" و"عالمًا" و"وحيد دهره"؟ , ثم إنّ من يناظر فليكن أهلاً للمناظرة، ومن يُفتي فليكن أعلم من الناس، وإن كان الحُكم هو الأعلم، فالعقل والشرع يفرضان علينا اتباعه لا مخالفة قوله باسم الحرية والتفكير , العلم ليس صراعًا، ولا هو ساحة لتضخيم الذات، بل العلم نفعٌ وتواضع، وكلما ارتقى العالِم، زاد تواضعه، وابتعد عن مظاهر الزينة والرياء , وقد نُقل عن أحد تلامذة السيد الخوئي (قدس سره) أنه لاحظ بعد وفاة السيد الحكيم وتصدّي السيد الخوئي للمرجعية، أن مظهره تغيّر قليلًا، فلاحظ عليه ملابس جديدة وقميصًا نظيفًا تحت العباءة، فقال لصاحبه: "السيد لم يعد كما كان حين كان أستاذًا فقط , فسأله تلميذه بأدب: "سيدنا، الآن بعد أن أصبحت المرجع الأعلى، هل تغيّرت عن السابق؟", فقال السيد الخوئي بكل بساطة: الذي يطلب المرجعية إما مجنون، أو لا دين له! أنا أرى الأستاذية والدرس أفضل من هذا التصدي، لأن المرجعية مسؤولية، وتحمّل، وانشغال عن العلم والبحث والتأليف , العالِم لا يطلب المرجعية، بل هي التي تأتي إليه , وتلك علامة فارقة بين أهل الحق والمدّعين , وفي زمن اختلطت فيه المفاهيم، نحتاج إلى ميزان، لا تحكمه العاطفة، بل العقل والشرع والتجربة، ونحتاج إلى وقفة صادقة مع الذات:من نتّبع؟ ومن نُصدّق؟ ومتى نُحسن الظن؟ ومتى نُحذّر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق