"كل إنسان مسؤول عن نفسه، عن أفعاله، عن كلماته، عن نواياه، أما ما يفسّره الآخرون ويظنّونه، فهذه مشكلتهم لا مشكلتك. لا أحد يستطيع أن يتحكّم في طريقة فهم الناس أو تأويلهم، لكن كلّ ما عليك هو أن تكون صادقًا مع نفسك وواضحًا في تصرفاتك."
"وكأن المقبرة نافذةٌ تفتح للحظة على الحقيقة، ثم تُغلق سريعًا عندما يعود الإنسان إلى إيقاع حياته المعتاد، وكأن شيئًا لم يكن! رغم أن الأرض احتضنت أعزّ الناس، ورغم أن العيون اغرورقت بالدموع، إلا أن الزمن يمضي دون أن ينتظر أحدًا، والإنسان بطبيعته يتشبث بالحياة، حتى وهو يدرك نهايتها.
في ذلك حكمةٌ خفية؛ فلو ظل أثر الفقد حاضرًا بنفس قوته، لما استطاع المرء أن يكمل طريقه، ولعل النسيان نعمةٌ تحفظ للإنسان قدرته على الاستمرار. نعم، حالات النسيان تختلف، فهناك من لا يفارقهم الحزن، ويبقى يرافقهم العمر كله، وآخرون تتلاشى آثار الفقد لديهم سريعًا.
الموت درسٌ لا يمكن للصالحين تجاهله، لكنه لمن استسلم للغفلة يبدو وكأنه حدثٌ بعيدٌ لا يعنيه، حتى يحين دوره..."
"نحن نقرأ ونكتب بحثًا عن المعنى في
الكلمات، وعن الفكر في العقول. المعرفة ليست مجرد تراكم معلومات متناثرة، بل تأملٌ
في الرؤى التي تكوّن منها تاريخ الإنسان، وفلسفة وجوده، وما يتركه من أثر في
الزمن.
نتنقل بين المعارف كما يتنقل المسافر بين المدن، نكتشف الأسئلة قبل أن نبلغ الإجابات، ونسعى لفهم كيف تلتقي الحكمة بالخيال، وكيف يصوغ الفكر مسارات الحياة.. نعم، الحقيقة ليست دائمًا واضحة، وتحتاج إلى من يتأملها دون تحيّز. وعلينا أن نُدرك قوة الكلمة؛ فهي قادرة على بناء عالم أو على هدمه. أما الماضي، فلا يموت، لكنه بالحاضر والمستقبل يُعاد بناء الإنسان."
الانحراف
الفكري، سواء كان أخلاقيًا أو دينيًا، ليس إلا انعكاسًا لاستلاب العقل وسط متاهات
الجهل، حيث يتم استدراج الوعي إلى العبودية الفكرية ضمن منظومات تصنع الوهم بدلاً
من الحقيقة. فالتحرر الحقيقي لا يكون برفض الهيمنة فقط، بل في إعادة تشكيل الوعي
ليكون نابعًا من إدراك ذاتي عميق، بعيدًا عن التلاعب والإملاءات.
أما
التنويم الإيحائي، فهو سلاح خفي يستخدم للهيمنة على العقول، مؤثرًا حتى على أصحاب
الفكر والعلم، إذ يستغل اللاوعي والانفعالات ليعمّق الاستلاب دون أن يكون واضحًا,
هل يمكن للعقل أن يتحصن ضد هذه الأدوات، أم أن الاستحمار أصبح قيدًا يصعب الفكاك
منه..
الحقيقة اليوم، العالم المحافظ يواجه أعتى حربٍ
على الأخلاق والقيم، وقذائف الإفساد والفساد تصل إلى كل مكانٍ دون استثناء، بينما
نحن عاجزون عن إيصال ما نؤمن به إلى مواقعهم ومناطقهم. ولأسبابٍ عديدة، يصعب تناول
هذه المسألة في مقالٍ واحد.
هذا الواقع يفرض تحديات غير مسبوقة على القيم
والمبادئ التي حافظت عليها المجتمعات لقرون، حيث تبدو موجات التحلل الأخلاقي
وكأنها تجتاح كل زاوية بلا استثناء، مدعومة بأدوات حديثة تجعل انتشارها واسعًا
وسريعًا. غير أن العجز الحقيقي لا يكمن فقط في عدم القدرة على الوصول إلى تلك
المساحات التي تنشر الفساد، بل أيضًا في افتقاد استراتيجيات فعالة لمواجهة هذا
المدّ، وغياب الخطاب القوي والمؤثر في هذا الصراع الفكري. هناك حاجة ملحة لإعادة
النظر في أساليب نشر القيم، بحيث لا يكون الأمر مجرد ردة فعل دفاعية، بل خطة
متكاملة تُبنى على فهم عميق لما يحدث، وعلى استخدام الأدوات المناسبة لإيصال الصوت
الأخلاقي بقوة إلى حيث يجب أن يكون.
وبنفس الأدوات، ولكن بأسلوب مختلف، وبدون ملل،
فإنهم يتمتعون بشهرةٍ أكبر ودعمٍ أوسع. لكن الحل يكمن في العمل الدؤوب كما عمل
الصالحون، الذين لم ينتظروا إلا النصر من الله. فإن تحقق الهدف، فهو نصرٌ، وإن لم
يتحقق، فقد أدى الإنسان ما عليه من تكليف. إصلاح فرد أو منعه من الضياع له عند
الله شأنٌ عظيم، وقد قيل: "وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلًا، خير لك
مما طلعت عليه الشمس."
على كل منا أن يكون سفيرًا للقيم في محيطه،
مستخدمًا أدوات الإعلام الرقمي مثل صفحات الفيس بوك وغيرها لنشر الرسالة، خاصةً أن
العالم الافتراضي أصبح ساحةً مفتوحةً تُرسم فيها توجهات مختلفة؛ بعضها يحمل رسالة
معرفية وتواصلًا نقيًا، وبعضها الآخر يستغل الاحتياجات النفسية ليجذب الأفراد إلى
دوائر من الابتذال والتشويه الأخلاقي.
الجانب الأخلاقي لهذه المسألة ليس مجرد نتيجة عرضية، بل هو جزءٌ من منظومة تهدف إلى إعادة تشكيل القيم، سواء عبر التطبيع مع سلوكيات معينة أو خلق تصورات جديدة عن الحرية والتفاعل الاجتماعي. البعض يبرر هذه الظاهرة كوسيلةٍ للتعبير وكسر القيود المجتمعية، لكن تأثيرها العميق يتجاوز ذلك ليصل إلى إعادة تشكيل الوعي بطرق قد تكون بعيدة عن المبادئ الأصيلة التي تحافظ على تماسك الفرد والمجتمع.
تأمل في طبيعة الإنسان وتقلبات الحياة ولا ينبغي للمرء أن يكون أسيرًا للمشاعر السلبية تجاه الآخرين، سواء كان ذلك نابعًا من الحسد أو الغيرة أو حتى إسقاطات شخصية , وعلينا ان نعلم أن الحياة ديناميكية، ولا أحد يبقى كما هو؛ الطفل ينضج، والجاهل يتعلم، والمذنب يتوب، المريض يشفى او يرحل الى جوار ربه والزمن يحمل في طياته فرص التحول والتغيير , الذوق والأخلاق هما المعيار الحقيقي لشخصية الإنسان، وما يخرج من اللسان هو انعكاس لجوهره الداخلي، فالكلمة قد تكون جسرًا إلى القلوب أو سيفًا يقطع الروابط وهي التي تبقى بعدنا ونخلد بها اذا كانت طيبة يترحم لنا واذا كانت سيئة نلعن .
قراءة في نشأة السلاطين والطغاة في الإسلام
منذ بداية التاريخ السياسي الإسلامي، اتسم الحكم
بطابع متدرج؛ بدأ بالزهد والعدل كمرحلة أولى فرضتها طبيعة المجتمع حينها، لكنه
سرعان ما تحول إلى استحواذ كامل على السلطة، خصوصًا بعد مؤامرة السقيفة. كان أغلب
المشاركين على دراية بصاحب الحق الشرعي، إذ شهدوا وصية النبي (ص) في غدير خم لعلي
(ع) بالإمامة باعتباره الخليفة الشرعي بعده. ومع ذلك، انقسمت الأمة إلى فريقين؛
فريق أوفى بوصية النبي (ص) وبقي متمسكًا بخلافة الإمام علي (ع)، وفريق آخر انقلب
على عقبيه، مكونًا زمرة من المنافقين الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتنصيب أبي
بكر بن أبي قحافة.
في تلك اللحظة، كان أمير المؤمنين (ع) منشغلًا
بتجهيز النبي (ص) ومواراته الثرى، بينما كانت المؤامرة تُحاك عبر روايات مصطنعة
صاغها الوعاظ لتبرير هذا التغيير المفاجئ في مسار الحكم. تشكّل تحالف بين الأنصار
والصحابة بقيادة عمر وأبي بكر وأبي عبيدة، فيما تدخلت قبيلة بني أسلم لتعزيز هذا
التحالف من خلال انتشارها المسلح في طرق المدينة لمساندتهم، مما دفع عمر بن الخطاب
إلى التصريح قائلًا: "ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر."
رغم أن الحكم بدأ بوتيرة هادئة، فإنه تكيف
سريعًا مع المستجدات، حيث أُرسيت قواعد تصفية المعارضين والرافضين. ومن أبرز
الحوادث الدالة على ذلك، مقتل مالك بن نويرة،حيث قام خالد بن الوليد بالزنا بزوجته
بعد قتله، في واحدة من أولى الجرائم السياسية التي شهدها الحكم الجديد. لاحقًا،
أتاح عثمان بن عفان الفرصة لبني أمية للهيمنة على موارد الدولة، ما أعاد الاعتبار
للأسرة التي كانت الأشد عداءً للنبي (ص) والإسلام.
عندما اجتمع الناس حول الإمام علي (ع) وانتخبوه
خليفةً، قبِل بذلك رغم أنه ترك السلطة طوعًا، مؤكدًا أن الخلافة أو السلطة لا تعني
له شيئًا، كما قال:"الخلافة التي تُقدم لي لا تساوي قيمة شسع النعل، إلا إذا
كان بإمكاني أن أؤدي حقًا أو أدفع باطلًا."
استُشهد الإمام علي (ع) بعد أن بذل كل ما في
وسعه لإعادة الإسلام إلى ما كان عليه في عهد النبي (ص)، لكن الخط الأموي الذي ظل
يتربص بالإسلام استطاع انتزاع الحكم بالقوة، مستفيدًا من التخطيط المسبق للخلفاء،
الذين صاغوا قواعد الحكم الوراثي، محولين الدولة الإسلامية إلى ملكية شبيهة بأنظمة
القياصرة والملوك , ولم يُسمح لعائلة النبي (ص) بالمشاركة في الحكم، بل ظلت تحت
مراقبة مشددة وتهديد دائم، حيث كانت الاغتيالات ممنهجة ضد أي تحرك سياسي أو اجتماعي
ينبع من أهل البيت (ع) أو من المؤيدين لهم. كان الهدف واضحًا: إقصاءهم تمامًا عن
السلطة وضمان عدم تهديد الحكم القائم , واستمر حكم بني أمية تحت شعار الفتوحات
الإسلامية، لكنها لم تكن سوى غزوات نهب وسلب استهدفت المناطق الغنية بالأموال
والجواري والغلمان، بينما تجاهلت تمامًا المناطق التي لا تحمل مكاسب مادية، مثل
إفريقيا، باستثناء تلك التي تحتوي على الذهب والعبيد , وسار العباسيون والعثمانيون
على ذات النهج، حيث تقاتل الإخوة على الحكم، بل إن الأب كان ينازع أبنائه على
العرش. واستمرت سياسات القتل والطغيان، إلى جانب مظاهر التبذير والترف في القصور،
تحت مظلة "الإسلام" , وصولًا إلى يومنا هذا، لا يزال الطغاة يتفاخرون
بالطغيان، فيما يستمر العبيد في تقديس هؤلاء الطغاة، متماهين مع فلسفة الإنسان
العبد الذي يعشق سيده وسياط قهره، بل ويحتفي بإهانته باعتبارها شكلاً من أشكال
الولاء.
أعلم أن الكلمات لا تكفي، لكنها قد تكون رفيقًا
في لحظة التأمل والتعبير عن الألم , خبر موت اخي حقيقة لم أستوعب الصدمة فورًا، وكأن
الحياة توقفت عند هذه اللحظة وتجسد لحظة الفاجعة بأقصى درجات الصدمة والذهول.
الحزن في مثل هذه اللحظات يصبح أكبر من الكلمات، كأنه يتمدد في الفراغ بين التصديق
والإنكار، بين الصمت والصراخ الداخلي , وتذكرت ما قاله المهلهل بن ربيعة، حين نُعي
أليه موت أخيه عبّر عن حزنه العميق بعبارة "هل مات كله؟ كليبٌ كله يموت!
وكأنه فقد أكثر من أخٍ، بل فقد جزءًا من وجوده , كانت هذه الجملة اختزالًا لحجم
الكارثة التي حلّت به، لحظة تشبه الصمت الذي يلي الفاجعة، حيث لا يجد الإنسان
كلمات تعبر عن حزنه، سوى تلك التي تحمل دهشة ورفضًا في آن واحد.
وكأنه
يسأل عن إمكانية أن يكون الموت بهذا الشمول والنهائية. ففي لحظات الفقد، لا يموت
الشخص وحده، بل يمتد أثر غيابه إلى كل شيء كان يرتبط به، إلى كل الذكريات، إلى كل
الأحاديث التي لم تُكتمل.
مراحل
الحزن ..
الحزن يمر بمراحل متعدّدة، تتفاوت في شدّتها
وفقًا لمكانة الفقيد في القلب، حيث يحمل كل طور ألمه الخاص. في لحظة المصيبة،
تتقارب المشاعر من بعضها، وكأن الحزن يذيب الفوارق بين الأحاسيس، فيكون الأقرب هو
الأكثر تأثرًا بالفاجعة، غارقًا في دوامةٍ من الذهول لا يدرك فيها كيف يتصرف،
بينما يحزن آخرون للفقد، وهناك من يشاركون الألم مجاملةً لأهل المصاب وفق الأعراف
الاجتماعية. ومع انتهاء التعازي، يعود كثيرون إلى حياتهم كما لو أن شيئًا لم يكن،
فهكذا تستمر الحياة، إلا أن العائلة الكبيرة تبقى في حدادها، والعائلة الخاصة تعيش
ذات الوحشة، حيث يظل مكان الفقيد فارغًا، لا يملؤه شيء , ومع المرحلة الثالثة،
تنقضي مراسم الحداد وتبدأ دعوات الفرح والابتهاج مجددًا، وكأن الزمن لا يأبه لمن
مضى، كما حدث مع كل الذين رحلوا من قبل. لكن العائلة وحدها تبقى مشدودة إلى حزنها،
تعيش وجعه الذي، وإن اعتادته، يزداد ألمًا مع مرور الأيام، حتى يصبح أكثر حضورًا،
كأنما يفضح حقيقة الفقد، ويدل على أن الراحل لم يكن مجرد شخص، بل كان قطعة من
السعادة نفسها، رحيله انتزعها من الحياة فبقيت ناقصة , ومع اتساع المسافة الزمنية
بيننا وبين الأحبة الذين غادروا، يتفاقم الشعور بالغربة—غربة المكان والزمان وكأن
المرء أصبح غريبًا في عالمه، ينتظر قطار الرحيل ليصعد ويلتحق بهم، لأن المكان لم
يعد مكانه، والزمن لم يعد زمانه.
الفقد لا يمضي، بل يعيد تشكيل علاقتنا بالزمن والمكان، يحوّل الذكريات إلى وطن مؤقت، ويجعل الغائبين أكثر حضورًا في كل لحظة، كأنهم لم يرحلوا تمامًا، بل أخذوا معهم جزءًا منّا لا يعود..