فلسفة خلق أهل البيت (عليهم السلام): معرفة
دقيقة خارج دائرة الغلوّ
بقلم: عادل الزركاني
حبّ أهل البيت (عليهم السلام) ليس عاطفةً عابرة،
ولا علاقةً نابعةً من فراغ، بل هو أمرٌ إلهيٌّ جاء في صريح القرآن الكريم، قال
تعالى: ﴿قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]. والمودّةُ هنا ليست مجرّد لفظٍ عابر، بل تعبيرٌ عمليٌّ
عن الحبّ، والالتزام، والارتباط الوثيق بقربى النبي (صلى الله عليه وآله)، أي بأهل
بيته الأطهار (عليهم السلام). ومن يُعيب علينا محبّتهم، عليه أن يعتبَ أولاً على
القرآن الكريم الذي أمر بتلك المودّة، وعلى الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي
جسّدها قولاً وفعلاً.
إنّ السؤال الذي يُطرَح دائماً: كيف نُعبّر عن
هذه المودّة عمليّاً؟ لا يكفي الادّعاء اللفظي، فالواقع يشهد للناس أو عليهم، فمن
قدّم أعداءهم على أوليائهم، نقضَ المودّة، ومن حزن لحزنهم، وفرح لفرحهم، وسار على
نهجهم، جسّد هذه المودّة بصدق. .. أما من يُثير الشبهات حول البكاء واللطم وإحياء
الذكرى، فنقول له: المشكلة ليست فينا، بل في كتبكم التي نقلت أنّ رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بكى الحسين (عليه السلام) وهو لا يزال حيّاً، بعد أن أطلعه الله
تعالى على ما سيجري عليه. أفهل بكى النبيُّ لغوًا أو عبثًا؟!
مدخل إلى فلسفة خلق أهل البيت (عليهم السلام) في
هذا السياق، نفتح باباً من أبواب المعرفة العميقة في عقيدة أهل البيت (عليهم
السلام)، يتجنّب البعضُ الخوضَ فيه خوفاً من أن يُساء فهمه أو يُتّهم بالغلوّ، مع
أنّ هذا البُعد إذا ما طُرح وفق الضوابط القرآنية والروايات المعتبرة، يُصبح
نافذةً عظيمةً لفهم أسرار الخلق والتكوين.
أولاً: أهل البيت (عليهم السلام)... خَلقٌ كريمٌ
مخصوص _ هم مخلوقون، لا يُقال عنهم إنهم آلهة أو شركاء لله تعالى، بل هم عبادٌ
مُكرَّمون، خُلِقوا بنورٍ مخصوص، وتخطيطٍ إلهيٍّ خاص، سبق خلق آدم (عليه السلام)
بآلاف السنين، كما دلّت على ذلك الروايات المعتبرة، منها ما رواه الفريقان بألفاظٍ
مختلفة، عن النبي (صلى الله عليه وآله):"خُلِقتُ أنا وعليّ من نورٍ واحدٍ قبل
أن يُخلَقَ آدم بألفي عام"_ هذا النور لا يخرجهم عن حدود المخلوقية،
لكنه يبيّن شرفهم ومكانتهم التكوينية الخاصة.
ثانياً: فاطمة الزهراء (عليها السلام)... تجلّي
النبوة والإمامة_ فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليست مجرّد ابنة نبي، بل هي تجلٍّ
لنور النبوة والإمامة معاً، وبنورها المقدّس تفرّعت الإمامة في ذريّة الحسن
والحسين (عليهما السلام)، وبها اكتملت سلسلة الإمامة والولاية.
وهذا ليس غلواً، بل تجسيدٌ لعظمة موقعها، كما
قال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله):فاطمة بهجة قلبي، وسيدة نساء العالمين،
وذريّتها هم الأئمة الأطهار".
ثالثاً: التركيب النوراني لأصحاب الكساء (عليهم
السلام):اجتمع النور الإلهيّ في أصحاب الكساء الخمسة: النبيّ، علي، فاطمة، الحسن،
الحسين (عليهم السلام)، ولم يكن هذا الاجتماع مصادفةً تاريخية، بل جزءاً من تخطيطٍ
سماويٍّ دقيق.واستمرّ هذا النور في الإمام السجاد (عليه السلام)، الذي اجتمع فيه
نور النبوة، ونور الإمامة، ونور الزهراء، ثم انتقل إلى الإمام الباقر (عليه
السلام)، الذي هو ثمرة امتزاج النور الحسني والحسيني، حيث والدته فاطمة بنت الإمام
الحسن، ووالده الإمام السجاد ابن الحسين (عليهم السلام).
رابعاً: الحسن السبط (عليه السلام)... جدّ
الأئمة إلى الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) امتزاج النور الحسني والحسيني في
الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ليس مجرد مسألة نسبية، بل له دلالة فلسفية عميقة
على وحدة النهج، وتكامل المقامات، وهو إشارة واضحة إلى أنّ مشروع الإمامة ليس
بُعداً فردياً لشخصٍ معيّن، بل هو مشروعٌ تكوينيٌّ متكامل، يجمع بين نور النبوة
والإمامة، ويُجسّد وحدة الهدف والرسالة السماوية.
خامساً: معرفة دقيقة، لا غلوّ فيها: من يجهل
دقائق هذا التخطيط الإلهي قد يتوهّم أن بيان هذه المعاني ضربٌ من الغلوّ، بينما هي
في الحقيقة جزءٌ من المعرفة العميقة لمن تأمّل نصوص القرآن الكريم، والروايات
المعتبرة في كتب الفريقين، ومنها: حديث النور الواحد. وحديث الكساء. وحديث أنّ
الأئمة من ذرّية فاطمة (عليها السلام) وحديث أنّ الله خلق الخلق لأجل محمد وآل
محمد (صلوات الله عليهم).
إنّ هذه الفلسفة الإلهية ليست فكرة طارئة، بل هي
جزءٌ أصيلٌ من عمق الفكر الإماميّ، الذي يرى أنّ نظام الوجود قائمٌ بنور محمد وآل
محمد (عليهم السلام)، وأنّ معرفتهم بهذا المستوى ليست مبالغةً ولا غلواً، بل
إدراكٌ لمستوياتٍ رفيعةٍ من معرفة الحقيقة، وسُبُل فهم الخلق الإلهيّ، وغاية وجود
الإنسان.