نقد منهجي للرواية الحديثية في المدرسة
السنية
✍️ الشيخ عادل الزركاني
في هذا البحث المختصر، نسعى إلى تقديم قراءة
نقدية منهجية للرواية الحديثية في المدرسة السنية، وذلك من خلال تفكيكها على عدّة
مستويات: تاريخية، وروائية، ومنهجية، وبمقاربة موضوعية تسعى للإنصاف، لا للطعن ولا
التسقيط، بل للفهم والتقييم على أسس معرفية ومنهجية. كما سنقارن ذلك بمنهج أهل
البيت (عليهم السلام) في التعامل مع الرواية، من حيث مصادر التلقّي، وآليات
التوثيق، ومعايير القَبول والرد.
أولًا: هل الأحاديث السنية ذات أسانيد متصلة إلى
النبي (ص)؟ من حيث المنهج الظاهري، نعم، فإن غالبية الأحاديث في الصحاح السنية
(كالبخاري ومسلم) تُروى بأسانيد تُعتبر متصلة إلى النبي (ص). غير أن هذا الاتصال
لا يكفي لإثبات الصحة الواقعية؛ إذ إنّ صحة السند ليست مساوية لصحة المضمون والمتن
, فثمة عوامل مؤثرة لا يمكن تجاوزها، منها: عدالة الرواة، وهي محل جدل واسع، خاصة
لدى من ارتبطوا ببلاط السلطة الأموية أو ممن عُرفوا ببغضهم لأهل البيت (عليهم
السلام) سلامة المتن من الشذوذ أو مخالفته للقرآن أو السنة الثابتة , الظروف السياسية
التي أحاطت بالرواية ونقلت عبرها.
ثانيًا: كتابة الحديث والمنع المبكر : ثبت
تاريخيًا ـ وبالاعتماد على روايات صحيحة عند أهل السنة أنفسهم ـ أن النبي (ص) نهى
عن كتابة الحديث في بداية الإسلام، فقد ورد في صحيح مسلم: "لا تكتبوا عني،
ومن كتب عني غير القرآن فليمحه", واستمر هذا المنع في عهد الخليفتين الأول
والثاني، خوفًا – كما يُقال – من اختلاط الحديث بالقرآن، أو ربما لأسباب سياسية
تتعلق بتضخم النصوص المعارضة. ولم يُرفع هذا الحظر إلا في عهد عمر بن عبد العزيز
(توفي 101هـ) الذي أمر بتدوين الحديث خشية ضياعه , لكن الفترة الواقعة بين وفاة
النبي (ص) سنة 11 هـ، إلى بداية القرن الثاني الهجري، شهدت فراغًا حديثيًا كبيرًا،
كانت الرواية خلالها شفهية، وهي بطبيعتها عرضة: للنسيان، والتحريف، والتسييس، والوضع
المقصود لخدمة أغراض معينة , لقد اعتمد المحدثون على روايات منقولة شفاهة مثل
روايات أبي هريرة، الذي رُوي عنه آلاف الأحاديث رغم أنه لم يصحب النبي (ص) إلا
قرابة ثلاث سنوات، فكيف له أن يروي ما يناهز ستة آلاف حديث؟ بل أكثر من مجموع ما
روي عن الخلفاء الأربعة مجتمعين؟ هذا يطرح تساؤلًا جديًا عن منهجية النقل والضبط ,
ونجد أن بعض الروايات صُنعت لدواعٍ دعائية؛ كما في الرواية التي تنسب إلى النبي
(ص) أنه قال: "من أكل بصل عكة زار مكة". من المعلوم أن هذه الرواية
رُتّبت ترويجًا لبائع بصل، كما يفعل بعض مشاهير اليوم في الإعلان لمنتجٍ رديء! , فلو
أمعنا النظر بموضوعية، بعيدًا عن المذهبية، وطبقنا منهج النقد العلمي والرجالي،
لتبيّن أن كثيرًا من الأحاديث الواردة في الصحاح تعاني إشكالات منهجية. فمثلًا،
البخاري انتقى 7275 حديثًا من أصل 600,000 حديث، فأين ذهبت بقية هذه الأحاديث؟ ومن
كتبها؟ ومن قال بأن ما اختاره البخاري هو وحده الصحيح سندًا ومتنًا؟ , الفجوة
الزمنية بين النبي (ص) وتدوين الحديث الرسمي تتجاوز 90 سنة، أي أن التواتر المزعوم
هو تواتر انقطاعي، وإذا كان عمر الراوي يجب أن يمتد قرابة 150 سنة ليعاصر هذا
التسلسل، فإن ذلك غير منطقي، بل ولا واقعي، خاصة مع ضعف الذاكرة البشري، واحتمال
النسيان، أو الدخول في مراحل الخرف والزهايمر في الكِبَر!
ثالثًا: هل لعبت الدولة الأموية دورًا في صناعة
الحديث؟ نعم، وبلا شك تاريخي، فإن السلطة الأموية مارست توجيهًا ممنهجًا لصناعة
الحديث، من خلال: تشجيع وضع فضائل للخلفاء الثلاثة الأوائل، وخصوصًا أبي بكر وعمر،
ولو على حساب الحقيقة التاريخية , معاوية بن أبي سفيان أمر بوضع فضائل لعثمان، في
مقابل التحريض على الإمام علي (ع)، كما أشار ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة , استُخدم
رواة مثل: سمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وكعب الأحبار (الذي أدخل الإسرائيليات
إلى التراث الإسلامي)، رغم أنهم معروفون بوضع الحديث , هذا التسييس أفرز روايات
تخدم المشروع السياسي، وتشوّه صورة أهل البيت (ع)، أو تُعلي من شأن خصومهم
التاريخيين.
رابعًا: التحيّز المذهبي في قبول الرواة: من
الملاحظ أن المدرسة السنية غالبًا ما تُجرّح الرواة الشيعة، خاصة إذا أبدوا ولاءً
واضحًا لأهل البيت (ع)، فيُتّهمون بالرفض والغلو، ويُضعّفون تلقائيًا، كما حصل مع:
زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم ,وأبو بصير وهم من كبار الرواة في مدرسة أهل البيت
(ع). في المقابل، تم توثيق رواة نصّابين أو نواصب مثل: عكرمة مولى ابن عباس وعمران
بن حطان (مادح قاتل الإمام علي!) سمرة بن جندب، الذي وضع رواية أن آية: "ومن
الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا..." نزلت في علي (ع)! , هذه الأمثلة
توضح أن منهج الجرح والتعديل عند بعضهم كان مسيّسًا ومتحيّزًا، مما أثر على
مصداقية البناء السندي الظاهري.
خامسًا: النتائج والخلاصة: نعم، السند الظاهري المتصل موجود، لكنه لا يكفي
وحده للحكم على صحة الرواية , المنع المبكر من التدوين ولّد فراغًا سمح بالتلاعب
والوضع , والدولة الأموية لعبت دورًا حاسمًا في توجيه الرواية وفلترة الموالين
لأهل البيت (ع) , والتحيّز المذهبي والسياسي أثّر بوضوح في اعتماد الرواة وتصنيفهم
, منهج أهل البيت (عليهم السلام) في الرواية يعتمد على النقل المتسلسل المعنعن عن
إمامٍ عن إمام، ضمن دائرة العصمة والمعرفة الإلهية، مع عرض كل رواية على القرآن
الكريم، فما خالفه يُطرح، وهذه قاعدة منهجية أصيلة , وبالتالي، فإن القول بأن ما
في الصحاح السنية قطعي الثبوت والدلالة غير دقيق، بل هو مخالف للعقل والمنطق
والتاريخ، بينما تحفظ مدرسة أهل البيت (ع) للحديث توازنًا معرفيًا وروحيًا، يقوم
على الثقة بالإمام المعصوم كميزان للصدق والدين، لا على الظواهر الشكلية للسند فحسب....